التوثيق الملكي يعرض المنشور الهاشمي الثالث لمقاصد الثورة العربية الكبرى

المنشور الثالث

عرض مركز التوثيق الملكي الأردني الهاشمي، وبمناسبة الذكرى السادسة بعد المئة لقيام الثورة العربية الكبرى، المنشور الهاشمي الثالث للشريف الحسين بن علي والصادر بتاريخ 4 صفر 1335 والذي بين فيه الحالة التي آلت إليها البلاد العربية بعد سيطرة الاتحاديين على السلطة  .
أكد المنشور الذي جرى نشره في افتتاحية العدد الحادي و الثلاثين من جريدة القبلة على امتثال الشريف لواجبه الوطني واضطلاعه بمسؤولياته القومية تجاه أمته.
يشير الشريف إلى مسؤولية حزب الاتحاد والترقي – بعد وصولهم للسلطة - عما حصل في البلاد من تجاوزات وظلم وطغيان مبينا أنهم "أضاعوا في بضع سنوات ما تزيد مساحته عن مساحة بضع ممالك في أوروبا" وعاثوا فساداً في العراق والشام والجزيرة العربية، مما استوجب الوقوف في وجههم وردعهم عن غيهم عملاً بسيرة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأخذاً بأحاديثه الشريفة، وقد أورد ذلك في أعقاب ذكره ما قام به من نصح أدّاه لرجالات الحكم في الاستانة من خلال إرسال الرسائل وانتداب أولاده لهذه الغاية.
يذكر الشريف في المنشور فخره واعتزازه بالأمة العربية التي سعت لدحر الظلم عنها واستعادة حكمها بنفسها مبيناّ أن من نتائج ذلك أن صارت مقاليد أمور الحكم بيد أبناء الأمة الذين سيحرصون على إدارة البلاد والنهوض بها لما فيه خيرها وعزها واستقلالها عبر انتهاج الطريق القويم لذلك والمتمثل بالتناصح والتعاضد وتغليب المصلحة الوطنية والقومية.
يأتي الشريف على ذكر التحالفات مؤكداً في معرض حديثه عن الحلفاء أن العلاقات معهم قائمة على المصلحة المتبادلة واعترافهم بضرورة وجود حكومة إسلامية مستقلة.
يختتم الشريف منشوره بدعوة أبناء الأمة للبناء والنهوض وحثهم على التعليم بمختلف حقوله لتنمية وتطوير البلاد مورداّ الآية الكريمة (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون).
وتاليا نص المنشور:
بسم الله الرحمن الرحيم
( قل هذا سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا وما اتبعني ) الحمد لله الذي أخرجنا من الظلمات إلى النور، والصلاة على سيدنا محمد صاحب الهداية الباقية ما بقيت العصور وكرت الدهور ، وعلى آله وأصحابه الذين قاموا بعزائم الأمور ، وسلم تسليما كثيرا .

وبعد فقد حان لنا أن نخاطب أبناء بلادنا خاصتهم وعامتهم وكبيرهم وصغيرهم ، وحاضرهم وباديهم في حقائق الأمور التي كنا فيها ، والحالة التي صرنا اليها ، والواجبات التي حتمت علينا مقتضيات الدين والقومية والإنسانية أن نقوم بها حق القيام .

فإنه لم يبق فيهم ولله الحمد من يخفى عليه أمر هؤلاء الأغرار الذين تسلطوا على المملكة العثمانية فأحلوا فيها ما احلوا وحرموا ما حرموا مما تقدمت الإشارة إلى بعضه في منشورينا السابقين ، واتخذوا دين الله لهوا ولعبا وسلبوا السلطة من أيدي أهلها ، وتصرفوا بالمملكة تصرفا أضاعوا به بلادها في بضع سنوات ما تزيد مساحته على مساحة بضع ممالك عظيمة في أوروبا وآذوا عباد الله بالقتل والشنق والتعذيب والتغريب ومصادرة الأموال وانتهاك الأعراض ، بما لا يحيط به العد والحصر ، ولعل ارض الحرمين الشريفين كانت اقل الممالك العثمانية ابتلاء بمصائبهم ومفاسدهم لا عن تكريم منهم لمشاعرها المقدسة ، ولا رأفة منهم بأهلها أو لأن الحجازيين احب اليهم من سكان الرومالي والأناضول والشام والعراق بل لما سخرنا الله له من الوقوف لهم موقف النصح تارة والدفع بالتي هي احسن أحيانا، على أمل أن يصبح الذي بيننا وبينه عداوة كأنه ولي حميم .

بذلنا ما في الوسع لدفع الأذى عن هذه الديار بالطريق المتقدمة ، ولم نأل جهدا في تخفيف ظلمهم عن المسلمين واهل ذمتهم في كل أنحاء المملكة ، وحملهم على اجتناب كل ما ينكره الناس عليهم ، وإقناعهم بخطر أعمالهم وما ستؤول إليه من ضياع البلاد وهلاك العباد وكنا نخلص النصح لرجالهم في الاستانة بمكاتبات محفوظة لدينا صورها وأعدادها وتواريخها لا سيما في السنين الأخيرة ومن المتيسر لكل إنسان أن يطلع عليها وكذلك كنا ننصح لولاتهم هنا بطرق المشافهة والمخاطبة وأوفدنا بعض أولادنا إلى الاستانة والشام لهذا الغرض ولكنهم لم تزدهم دعوتنا إلا ظلما وطغيانا وبغيا وعدوانا .

ومما زاد مسؤوليتنا بين يدي الله عز وجل ، ثم أمام واجب الوطنية والقومية ما وقع فيه قومي وأبناء جلدتي من الشدة التي لا تحتمل حتى أمست بلادنا بسبب أولئك الأغرار الجاهلين منقطعة عن كل أقطار الدنيا ، وان قلب المؤمن لا يرضى في حال من الأحوال رؤية جيران بيت الله الحرام وهم يموتون من الجوع والعري على قوارع الطريق وذلك مما هو معلوم لدى الخاص والعام والبدوي والحضري . ولا ريب أن أهل بلادنا لم ينسوا تلك الحالة المؤلمة والهلكة التي لمستها الأيدي وعاينتها الأبصار، لان الحول لم يحل عليها بعد. وما كانت شدتها بالذي يستحق أن ينسى .

حينئذ استخرنا الله عز وجل للقيام في وجوه الأئمة الظالمين والمخربين الملحدين فرارا من عاقبة قوله صلى الله عليه وسلم في ما رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه في حديث صحيح ( إن الناس اذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه ) وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الطبراني ( خذوا على أيدي سفهائكم من قبل أن يهلكوا أو يهلكوا ) وقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الطبراني أيضا بحديث صحيح ( أيما وال ولي شيئا من أمر أمتي فلم ينصح لهم كنصيحته لنفسه كبه الله تعالى على وجهه يوم القيامة في النار) وقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه الطبراني أيضا بحديث صحيح ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به) وقوله صلوات الله عليه وسلامه فيما رواه داود في سننه ( خيركم المدافع عن عشيرته) . وقد خار الله لنا أن ننهض بأمتنا للأخذ على أيدي الظالمين وإجلاء السفهاء المارقين عن البلاد والعباد طالبين لهم ما طلبناه لأنفسنا من جعل هوانا تبعا لما جاء به صلى الله عليه وسلم. ودفع السوء عن عشائرنا وجماعاتنا العربية التي صارحها هؤلاء الأغرار بعداوة جنسيتها ولغتها وتقاليدها وراحتها وهنائها في كل ما ظهر وما بطن من أقوالهم وأعمالهم .

وها إن ما كنا نسمعه وتسمعونه من ضروب ظلمهم وبغيهم في عرب الشام والعراق لم يسلم منه أهل المدينة المنورة على ساكنها افضل الصلاة والسلام . فقد تواترت الأنباء بمضاعفة بغيهم وظلمهم فيها واخذوا في شنق النفوس البريئة وصلبها مستعملين ضروب الوحشية الطورانية وشرعوا بتشغيل بعض من وقع في أيديهم من سكان العوالي بالأشغال الشاقة بعد الفظائع الشنيعة التي أجروها لهم من قبل ثم شنقوا أخيرا ثلاثة من أعيان المدينة المنورة. وبدأوا تجنيد الأهالي بالقوة حتى استنجد بعض أهالي المدينة المنورة بإخوانهم المكيين لينقذوهم مما هم فيه.
فأي مروءة لحاكم مهما كان ظالما أن يسل سيف حقده وضغنه وانتقامه في سكان المدينة المنورة الذين آثروا جوار النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم على كل لذائذ الدنيا وصاروا أمانة الله في يد من يحكمهم واذا كان حقد المتغلبة وضغنهم قد وصل بهم إلى حد أن يمدوا أيديهم بالأذى لعامة سكان المدينة المنورة الذين لا حول لهم ولا طول في جانب القوة العسكرية المتسلطة عليهم، فإن أولى بهم أن يخرجوا لقتال أولادي الأربعة ومن معهم من أفلاذ أكباد العرب، فهنالك موضع الشجاعة والقوة لا في قتل الأهالي الأبرياء والمجاورين الضعفاء وها إن جيوش الحق زاحفة عليهم من اربع جهات لا من جهة واحدة مجيبة داعي الله بالأخذ على أيدي الظالمين وتأديب الملاحدة المارقين .

وإنه لا يفوتنا بهذه المناسبة أن نعلن امتنا المخلصة بسرورنا من غيرتها الإسلامية وحميتها العربية وشكرنا لها على ما أبدته حتى الآن من البسالة والرجولة والشمم العربي ومشاركتها الفعلية في طرد المتغلبة الممارقة من عقر دارنا وحصون بلادنا . فسطرت بذلك صفحة ذهبية جديدة في تاريخ البلاد العربية المجيدة واستحقت أن تكون صاحبة الفخر الأعظم باسترداد الاستقلال التام الدائم لبلادها ما دامت السماء والأرض إن شاء الله تعالى .

وان نظرة واحدة فيما كانت بلادنا عليه بالأمس وما صارت إليه اليوم بحول محول الأحوال كافية لترديد شكر الله تعالى منا جميعا على جزيل آلائه وعظيم نعمائه فقد ابدلها من العسر يسرا ومن الخوف أمنا ومن الضعيف قوة وكانت مقدراتها تحت تصرف وصي جاهل لا يراعي فيها إلاً ولا ذمة فأزاحه الله عنها وصارت حكومتها منها وفيها . وفتحت لرجالها على اختلاف طبقاتهم أبواب العمل لإدارتها واستعمال عقولهم وذكائهم ومواهبهم في تحسين أحوالها. كما فتح لأبنائهم الطريق القويم إذا جدوا في إدراك الفضائل وتحصيل الكمالات حتى يبلغوا الله عز وجل سعادة الدنيا بتولي المراتب العالية في دولتهم والمناصب الجليلة في حكومتهم ويحصلوا على سعادة الآخرة بإيفاء ما يجب علينا من خدمة وفود الله وحجاج بيته الحرام واستحصال جميع الأسباب التي تستلزمها راحتهم من كل الوجوه. وان عزائم حكومتنا معقودة للنهوض بأمر المعارف على أساس قويم يضمن تهذيب ناشئة البلاد إن شاء الله تعالى على الوجه الذي أشرنا إليه. وان كل ما حصل حتى الآن ليس إلا جزءا قليلا مما ستناله البلاد من الخير التدريجي الدائم. وان كان كثيرا بالنسبة إلى ما نحن فيه من التدابير الحربية وبالنسبة إلى الوقت القصير الذي تمتعت فيه الأمة بالاستقلال.

ومما لا يختلف فيه اثنان أن تأسيس الممالك يحتاج إلى أن تبذل فيه كل طبقات الأمة ما تستطيعه من السعي والجهد والعمل . وان يقوم كل فرد من أفرادها بما يحسنه من وسائل المساعدة للنهضة العامة حتى يتم الخير العميم على أيديهم جميعا فتشترك الأمة كلها في نتائجه بعد اشتراكها في مقدماته وبهذا تقيم الأمم صروح المجد وتهيئ لممالكها أسباب الهناء والسعد .

واهم ما ينتظر من الأمة إخلاص النية والتناصح والتعاضد والدفاع عن الحق والمصلحة القومية والوطنية فقد ورد في صحيح مسلم وسنن أبي داود والنسائي ومسند احمد ( أن الدين النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولائمة المسلمين وعامتهم ). وفي صحيح مسلم (لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا المسلم اخو المسلم لا يظلمه ولا يكذبه ولا يحقره التقوى ها هنا (ويشير إلى صدره ثلاث مرات) بحسب امرىء من الشر أن يحقر أخاه المسلم.  كل المسلم على المسلم حرام : دمه وماله وعرضه ) وفي سنن الترمذي عنه صلى الله عليه وسلم انه قال ( يد الله على الجماعة ) فبالتعاون والتآزر والتناصح تنجح الأمم وتفوز في معترك الحياة وتكتسب رضى الحق ورضى الخلق وبهذا يأمرنا ديننا الإسلامي الحنيف .

فلنكن مسلمين حقيقة ومن كان مع الله كان الله معه وان ما نالته جيوشكم حتى الآن من النصر والفوز لم يكن إلا بالإخلاص والنية الصالحة واستئصال شأفة الإلحاد والفساد . وشتان بين من يؤسس بنيانه على التقوى ومن يؤسس بنيانه على شفا جرف هار. وان من باب التحدث بالنعم الإلهية والوفيقات الصمدانية ما ترونه من اني لم اضن بنفسي وراحتي وحياة أولادي على الدفاع عن راحة أبناء جلدتي ومصلحة بلادي وذلك لما علمته من أن الخدمة لا تتم إلا بان يعمل لها كل بما يستطيع .

ومن نعم الله تعالى على بلادنا هذه العربية اتفاق مصالحها مع مصالح من والاها من حلفائها وإعلانهم العطف عليها في آمالها وأمانيها وتصريحهم بأن من النقط التي لا تقبل التغيير والتبديل بقاؤها في أيدي حكومة إسلامية مستقلة أمينة من كل طارئ خارجي وان من مقتضى أخلاقنا الإسلامية التي منها الاعتراف بالجميل شكر حلفائنا الكرام على إخلاصهم في صداقتنا وحسن سيرتهم معنا وبذلهم الوسع فيما فيه خير هذه البلاد واننا سنحرص على دوام ما يؤيد هذه المنافع المتبادلة إلى ما شاء الله .

ومهما كان حكمنا على حالة بلادنا في الوقت الحاضر من جهة ما يظهر في النظرة الأولى من قلة أسبابها الاقتصادية . ولكن مباشرة العمل ستبين لكم أنها تأتي بثمرات لم تكن في الحسبان فيكون بها تعديل الحاجة وتهوين الضرورة التي أحست البلاد بها في الشهر الأول بل في الأسبوع الأول من وقوع الحصر .

ولم يبق لاحد عذر في التقصير بشيء من أسباب الارتقاء بعد أن فتحت أبواب الاكتساب الخارجية للرجال وأبواب المدارس للأطفال وسوف تستمر حكومتنا في هذا السبيل إن شاء الله حتى تستكمل كل أسبابه لاسيما المدارس المساعدة على ذلك بكل أنواعها كالمدارس التجارية والزراعية والصناعية والطبية والهندسية وسائر ما نحتاج إليه في حياتنا الجديدة والعمران الحاضر على الطريق والوجه المناسب لقدسية بلادنا حتى يسهل استثمار ما اعد الله تعالى فيها من لوازم الحياة على أيديكم وبواسطتكم في عهد قريب إن شاء الله تعالى وليس ذلك بعزيز عليكم بالنظر إلى ما خصكم الله تعالى من الذكاء والفطنة وان خطتنا الأساسية هي المحافظة على ما نحن فيه والسعي لتنميته والتقدم به بالتدريج الذي تقتضيه حالة البلاد ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ).

الخميس 4 صفر الخير سنة 1335هـ 
شريف مكة المكرمة وملك البلاد العربية 
الحسين بن علي

شارك الخبر